تطوّرت مشاغل العلماء و الأدباء منذ القرن 2 هـ من تدوين اللغة و الأدب و تقييد العلوم بالكتابة إلى إعمال العقل في كثير من المسائل. و قد بلغت هذه النزعة العقلية أوجها في القرنين 3 و 4 هـ ، تأثّرا بالفلسفة التي مدّت عليهم نفوذها و خفضت لهم جناحها ، ففُلسِفت المباحث ، و أصّلت المفاهيم ، و فرّعت الأصول ، و استنبطت الأدلّة ، و تفيّأ أهل الفكر و الأدب ظلال العقل ،سواء في كتبهم ومصنّفاتهم ، أو في مجالسهم و مناظراتهم ، وهي مجالس علمية أشبه بالمنتديات الفكرية و الثقافية اليوم ، يلتقي فيها المشتغلون بالفلسفة و العلم واللغة و الأدب في مجلس، وهو إمّا أن يكون مجلس أحد الأدباء و العلماء ، أو مجلس أحد الوجهاء و الوزراء الّذين أخذوا بحظ من العلو الأدب لكن غلبت عليهم السياسة فاشتغلوا بها و تولّوا مناصب سياسية . ومن ثمرات النّوع الأوّل من المجالس - مجالس الأدباء و العلماء - كتاب "المقابسات" لأبي حيّان التوحيدي . أمّا النّوع الثّاني فمثاله كتاب " الإمتاع و المؤانسة " الّذي كان ثمرة لقاءات الأديب التوحيدي بالسياسي ابن سعدان الوزير البويهي .
" الإمتاع و المؤانسة "
* تأسّست الكتابة في الليالي على المحاورات ( قال لي و سألني و قلتُ له و أجبتُه ) ، ممّا جعل بعض الباحثين (محمّد الحبيب حمّادي) يصف " الإمتاع و المؤانسة " بأنّه كتاب في " مجالس الرأي " ،جعل آخر (كمال أبو ديب في مجلّة فصول ) يُصنّفه ضمن أدب ً المجلسيات " التي ازدهرت في القرن 4 هـ بتعدّد الإمارات و الوزارات ومنافسات أرباب السياسة على استقطاب وجوه الأدب و الفكر و الثقافة . و ضمن هذه الفضاءات يتنزّل كتاب "الإمتاع و المؤانسة " فهو جملة المسامرات التي سامر بها أبو حيّان ابن سعدان حوالي سنة 373 هـ .
* و النتأمّل في " الإمتاع.."يلحظ فيه نزعة عقلية نتجت عن عاملين :
- عامل موضوعيّ هو الإطار التاريخيّ و الأدبيّ و الاتّجاه العلمي و الفلسفي لعصر التوحيدي الذي أثّر و لا شكّ في تلوين أدب أبي حيّان بألوانه.
- عامل ذاتيّ يرجع إلى ثقافة موسوعيّة توفّرت لأبي حيّان من سبيلين :
أ) مهنة الوراقة التي مكّنته من الإطّلاع على ثمرات العقول و قرائح الألباب في كلّ فنّ .
ب) مثاقفته لأساطين الفكر و الأدب و الفلسفة في المجالس التي كان يؤمُّها في بغداد و أصبهان و أرجّان و نيسابور و الريّ و غيرها ..
هذا إضافة إلى ما تحلّى به أبو حيّن من فكر يقظ و عقل مائز و قلب جريئ و لسان فصيح و حفظ وفير و ملازمة للسّؤال و مداومة على النّظر .
و لقد تفطّن بعضُ القدامى - على قلّة عنايتهم بالرّجل و إهمالهم إيّاه - إلى أهميّة التّوحيدي . فهذا ياقوت الحمويّ صاحب " معجم الأدباء يقول عنه " فيلسوف الأدباء و أديب الفلاسفة ، و محقّق الكلام و متكلّم المحقّقين و إمام البلغاء، فرد الدّنيا الذي لا نظير له ذكاء و فطنة و فصاحة و مُكنة ،كثير التحصيل للعلوم ، في كلّ فنّ حفظُه، واسع الدّراية و الرّواية ". و هذا القفطيّ في كتابه " إنباه الرّواة " يصف كتاب" الإمتاع و المؤانسة " قائلا : " هو كتاب ممتعٌ على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلم ، فإنّه خاض كلّ بحر و غاص كلّ لجّة ..."
و قد وصف التّوحيدي نفسُه كتابه فقال في ج1 ص 13 بتحقيق أحمد أمين و أحمد الزّين و نشر المكتبة العصريّة د.ت ما نصّه : " وإن كان فيه غير ذلك ممّا يُضحك السنّ و يُفكّه النّفس و يدعو إلى الرّشاد و يدلّ على النّصح و يؤكّدُ الحُرمة و يَعقد الذّمام و ينشر الحكمة و يَلقحُ الققل و يزيد في الفهم و الأدب و يفتح باب اليمن و البركة و يُنْفقُ بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة و يوقظ العيون النّاعسة ... و يكون سببا قويّ على حسن الحال و طلب العيش "
و الذي نخرج به من هذا الشاهد أنّ في "الإمتاع.." :
+ قيمة ترفيهية: " يُضحك..و يفكّه.."
+ قيمة أخلاقيّة: "يدعو إلى الرّشاد و يدلّ على النّصح .."
+ قيمة فكرية عقلية : " ينشر الحكمة ..و يَالقح العقل ..و يزيد في الفهم .."
+ قيمة أدبية معرفية : " ينفّق بضاعة أهل العلم "
+ قيمة توعويّة إصلاحيّة : ص يوقظ العيون ..و يكون سببا قويّا على حسن الحال و طلب العيش "
و ممّا يُسفر عنه البحث أنّ " الإمتاع و المؤانسة " :
* كتاب نفيس يضمّ 40 ليلة / مجلسا على طريقة المحاورات.
* كتاب في مجالس الرّأي و النّظر ،(أي التأمّل الفكري و الفلسفي ) و التوعية و ليس مجرّد كتاب أنس و سمر. إنّه كتاب يُمتع العقل و يُؤنسُ النّفس .
* كتاب حوى جملة متنوّعة من المباحث و المسائل و المشاغل المعرفية و الأدبية و الاجتماعية و السياسية و غيرها بأسلوب المحاورات : فالوزير ينثر المسائل في المجلس بعد المجلس ، و التوحيدي يُجيب.و لعلّ هذا التنوّع في المواضيع ، و هذا الهيكل من البناء ، إلى جانب شخصيّة التّوحيدي و ثقافته الموسوعية المتشبّعة بالمعرفة الفلسفية ، هو ما أضفى على الكتاب نزعته العقلية التي تتجلّى في المبنى و الأسلوب كما في المعنى و المضمون .
* عمدة التوحيدي في المسامرات على حدّ عبارته ص 73 من "الإمتاع .." : " مسموع و مستنبط " وبعبارة أخرى النّقل و العقل أو الرّواية و الدّراية .
يتبع إن شاء الله